الطريق إلى الأربعين

بانيقيا نيوز16 أغسطس 2025
الطريق إلى الأربعين
عبد الكريم حمادي
رئيس شبكة الإعلام العراقي
لم يكن الطريق إلى الأربعين مجرَّد مسافةٍ تُقطع، بل كان حياةً تُستعاد.
كلُّ خطوةٍ، وكلُّ شبرٍ من هذا الطريق، كأنّه يُعيد وصل ما انقطع بين القلب والروح، بين الأرض والسماء.
خرجنا من بغداد والطرق أمامنا تتفتّح مثل أذرع أمٍّ تشتاق لأبنائها. شوارع جديدةٌ، واسعةٌ، مرتّبة، تُعبّدها أيادٍ تعرف أنَّ الزائر إلى الإمام الحسين (عليه السلام) يستحقّ أنْ يُكرَّم قبل أنْ يصل، وأنْ يُهيَّأ له السبيل قبل أنْ يخطو أولى خطواته.
السيارات تسير بانتظام، والناس تمشي في صفوفٍ تتجه إلى قِبلةٍ واحدة. كلما اقتربنا، شعرنا أننا نقترب لا من كربلاء فحسب، بل من الحقيقة التي تحملها عاشوراء في جوفها: التضحية، الكرامة، والحريَّة.
المواكب الخدميَّة تنتشر كواحاتٍ في صحراء العناء. أكواب الشاي الساخن تلتقي مع أكواب العصير البارد، وأطباق الطعام تملأ الأيدي قبل أنْ يفرغ القلب من الامتنان. هنا تجد الحساء الدافئ، وهناك تجد العصائر الطازجة، وفي زاويةٍ أخرى شواحن الهواتف، لأنّهم يعرفون أنَّ حتى التكنولوجيا تحتاج إلى أنْ تبقى على قيد الحياة في هذا المسير الطويل. خدماتٌ طبيَّة، أماكن للراحة، وبسماتٌ لا تنطفئ حتى وإنْ أُرهقت الأقدام.
مررْنا بمنطقة جرف النصر. كان الطريق الجديد الذي يربط العاصمة بكربلاء يختصر المسافات، لكنّه يُطيل فينا لحظة التأمّل. الأمن حاضرٌ، والحشد الشعبيُّ يُراقب بعينٍ لا تنام، يرافقها قلبٌ يُرحِّب بكلِّ زائر. بعض المواكب هنا قدّمتْ لنا ما نحتاج إليه قبل أنْ نسأل، كأنهم يقرؤون الحاجات قبل أنْ تُنطق.
في هذا الطريق، كلُّ شيءٍ منظم، وكلُّ قلبٍ مشغولٌ بالصلاة. حين يحين وقتها، تتوقف الأقدام عن السير، ويقف الجميع صفًا واحدًا، كأنَّ الأرض كلّها صارتْ مصلى. النساء والرجال يحرصون على الحشمة وكأنّهم في حضرة الإمام منذ الآن، لا ينتظرون الوصول إلى الضريح.
ومع كلِّ كيلومترٍ نخطوه، نشاهد مدنًا تغيّرتْ، تتسارع في تطوير نفسها، كأنها تريد أنْ تليق بضيوف الحسين. الجنود منتشرون على الطرق، متعبون لكنّهم يبتسمون، كأنهم يقولون: “طريقكم أمانتنا”.
وفي كربلاء، التقينا محافظها. كان وجهه مشدودًا من قلّة النوم، لكنّه لم يبدُ منهكًا، بل مفعمًا بالمسؤوليَّة. قال لنا بابتسامةٍ سريعةٍ إنَّ رئيس الوزراء يتّصل به كلَّ ربع ساعة. لم أستغربْ، فالمدينة الآن قلب العراق النابض، وكلُّ نبضةٍ فيها تُراقَب.
في الطريق إلى الأربعين، تُدرك أنَّ المسافة ليستْ بين بغداد وكربلاء، بل بين نفسك القديمة ونفسك الجديدة. كلُّ خطوةٍ تُسقط عنك بعض ما أثقل قلبك، وكلُّ لحظة قربٍ من الضريح تزيدك يقينًا أنك لم تكنْ تسافر في الأرض فقط، بل في داخلك أيضًا.
هنا، على هذا الطريق، يتوحَّد العالم في اسمٍ واحد، ووجهةٍ واحدة، وقلبٍ واحد.
هنا، يبدأ الوطن من جديد.
الاخبار العاجلة